فصل: تفسير الآيات (111- 113):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فأما الذين يعلمون حقاً، فإن تصريف الآيات على هذا النحو يؤدي إلى بيان الحق لهم فيعرفونه:
{ولنبينه لقوم يعلمون}..
ثم تقع المفاصلة بين قوم مبصرين يعلمون، وقوم عمي لا يعلمون!
ويصدر الأمر العلوي للنبي الكريم، وقد صرف الله الآيات، فافترق الناس في مواجهتها فريقين.. يصدر الأمر العلوي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما أوحي إليه، وأن يعرض عن المشركين، فلا يحفلهم ولا يحفل ما يقولون من قول متهافت، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم ولجاجهم. فإنما سبيله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه؛ فيصوغ حياته كلها على أساسه؛ ويصوغ نفوس أتباعه كذلك. ولا عليه من المشركين؛ فإنما هو يتبع وحي الله، الذي لا إله إلا هو، فماذا عليه من العبيد؟!
{اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين}..
ولو شاء الله أن يلزمهم الهدى لألزمهم، ولو شاء أن يخلقهم ابتداء لا يعرفون إلا الهدى كالملائكة لخلقهم. ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال، وتركه يختار طريقه ويلقى جزاء الاختيار- في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به، ولكنها لا ترغم إنساناً على الهدى أو الضلال- وخلقه على هذا النحو لحكمة يعلمها؛ وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره الله له. باستعداداته هذه وتصرفاته:
{ولو شاء الله ما أشركوا}.
وليس الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤولاً عن عملهم، وهو لم يوكل بقلوبهم فالوكيل عليها هو الله:
{وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل}..
وهذا التوجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحدد المجال الذي يتناوله اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله. كما يحدد هذا المجال لخلفائه وأصحاب الدعوة إلى دينه في كل أرض وفي كل جيل..
إن صاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة، المعاندين، الذين لا تتفتح قلوبهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان.. إنما يجب أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا. فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله على القاعدة التي دخلوا الدين عليها.. قاعدة العقيدة.. وفي حاجة لإنشاء تصور لهم كامل عميق عن الوجود والحياة على أساس هذه العقيدة. وفي حاجة إلى بناء أخلاقهم وسلوكهم؛ وبناء مجتمعهم الصغير على هذا الأساس نفسه. وهذا كله يحتاج إلى الجهد. ويستحق الجهد. فأما الواقفون على الشق الآخر، فجزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ.. وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. إن على الحق أن يوجد ومتى وجد الحق في صورته الصادقة الكاملة، فإن شأن الباطل هين، وعمره كذلك قريب!
ومع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب، وفي وقار، وفي ترفع، يليق بالمؤمنين.. لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه- وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه- فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم:
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}.
إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها، أن كل من عمل عملاً، فإنه يستحسنه، ويدافع عنه! فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها. وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها. وإن كان على الهدى رآه حسناً، وإن كان على الضلال رآه حسناً كذلك! فهذه طبيعة في الإنسان.. وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء.. مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق.. ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله، دفاعاً عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم!.. فليدعهم المؤمنون لما هم فيه:
{ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}..
وهو أدب يليق بالمؤمن، المطمئن لدينه، الواثق من الحق الذي هو عليه. الهادئ القلب، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور.
فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عناداً. فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه. وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون. من سب المشركين لربهم الجليل العظيم؟!
وأخيراً يختم هذا الدرس، الذي استعرض فيه صفحة الوجود الحافلة بالآيات والخوارق، في كل لحظة من ليل أو نهار.. يختمه بأن هؤلاء المشركين يقسمون بالله جهد أيمانهم أن لو جاءتهم آية- أي خارقة مادية كخوارق الرسل السابقة- ليؤمنن بها! الأمر الذي جعل بعض المسلمين حين سمعوا أيمانهم يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه هذه الآية التي يطلبون!.. ويجيء الرد الحاسم على المؤمنين، ببيان طبيعة التكذيب في هؤلاء المكذبين:
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}..
إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود- بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب- ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه، ويثوب إلى كنفه.. إن هذالقلب هو قلب مقلوب.. والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر، ما الذي يُدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب.. وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب؛ كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون.. لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون! ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم- كما اقترحوا كذلك!- ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان!.. إنهم لا يؤمنون- إلا أن يشاء الله- والله سبحانه لا يشاء، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه.. وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب..
إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين.. إنما الذي ينقصهم آفة في القلب، وعطل في الفطرة، وانطماس في الضمير..
وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه، والذين يجاهدون فيه..

.تفسير الآيات (111- 113):

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
الآية الأولى تكملة لفقرة سابقة في السياق- في نهاية الجزء السابع- ومتعلقة بما كان يقترحه مشركو العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخوارق التي يريدون أن يأتي لهم بها فيصدقوه وما كان من حلفهم بالله حلفا مكررا مؤكدا أن لو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبون إنهم ليؤمنون! مما جعل بعض المسلمين أنفسهم يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون! ويقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون!
والفقرة كلها جاءت هكذا:
{وأقسموا بالله جهد أَيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}..
ولقد سبق الحديث عن هذه الآيات في نهاية الجزء السابع. فالآن نتحدث عن الحقائق العامة التي تتناولها هذه النصوص؛ والتي لم نتعرض لها هناك في تفسيرها:
والحقيقة الأولى: هي أن الإيمان أو الكفر. والهدى أو الضلال... لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق. فالحق هو برهان ذاته. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له.. ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق، وهذه المعوقات يقول الله- سبحانه- للمؤمنين بشأنها:
{وما يشعركم أنها إذا جاءت (أي الآيات والخوارق) لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون}..
فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك- بعد نزول الآية- فيمنعهم من الهدى كرة أخرى..
إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته؛ وفي الحق كذلك بذاته؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية.. فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته..
والحقيقة الثانية: هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال. فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان. فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه- وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو- فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات.
وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة، ومرد الأمر كله إليه في النهاية.
وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى:
{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} وفي قوله: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}..
كما يشير إليها في آية سابقة على هذه الفقرة في سياق السورة قوله تعالى:
{اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل} كما تتكرر الإشارة إليها في الآية التالية لهذه الفقرة.
{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون...}..
فالأمر كله مرهون بمشيئة الله، هو الذي شاء ألا يهديهم لأنهم لم يأخذوا بأسلوب الهدى؛ وهو الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء؛ وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى؛ وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال.. بلا تعارض- في التصور الإسلامي- بين طلاقة المشيئة الإلهية وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار.
والحقيقة الثالثة: هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء، وتحت قهره وسلطانه سواء. فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد.. ولكن المؤمنين يطابقون- في القدر المتروك لهم للاختيار- بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار. وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة! فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه. أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم! وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره!
وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي في السورة. فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة، ذلك أن هذا الشطر كله- كما بينا من قبل- يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها.
ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله. حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله. فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان! إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء.
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى:
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}.
(يقول- تعالى ذكره- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا محمد آيس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، القائلين لك: {لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك} فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانا وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حجة لك، ودلالة على نبوتك، وأخبروهم أنك محق فيما تقول، وأن ما جئتهم به حق من عند الله؛ وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهم لك قبلا. ما آمنوا ولا صدقوك ولا اتبعوك- إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم- {ولكن أكثرهم يجهلون}.. يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك. يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفر بأيديهم، متى شاءوا آمنوا، ومتى شاءوا كفروا. وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي. لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته).
وهذا الأصل الذي يقرره ابن جرير هنا هو الصحيح. ولكنه يحتاج إلى زيادة الإيضاح- التي أسلفناها- باستلهام مجموعة النصوص القرآنية عن الهدى والضلالة ومشيئة الله وجهد الإنسان.. إن الإيمان حدثٌ والضلال حدث. وما يقع في هذا الوجود حدث إلا بقدر من الله ينشئه:
{إنا كل شيء خلقناه بقدر} فأما السنة التي يجري على أساسها ذلك القدر بوقوع إيمان فلان وضلال فلان، فهي التي تبينها مجموعة النصوص. وهي أن الإنسان مبتلى بقدر من الاختيار في الاتجاه. فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله ووقع هداه وتحقق بقدر من الله. وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله. ووقع ضلاله وتحقق بقدر من الله.. وهو على الحالين في قبضة الله وسلطانه. وحياته تجري بقدر الله وفق مشيئته الطليقة، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة.